مصر: تدفق استثماري صناعي غير مسبوق وأزمة "عمالة ماهرة" تهدد المكاسب

--

مصر: تدفق استثماري صناعي غير مسبوق وأزمة "عمالة ماهرة" تهدد المكاسب

في مشهد اقتصادي يحمل تناقضات صارخة، تجتذب مصر تدفقات استثمارية صناعية غير مسبوقة من قوى اقتصادية عالمية، بينما تعاني في الوقت ذاته من نقص حاد في العمالة الفنية المدربة. فبينما تفتح المصانع الجديدة أبوابها، تتسع فجوة بين توقعات سوق العمل ومخرجات التعليم، مما يهدد بإهدار فرصة تاريخية لتعزيز التنمية الصناعية.

الاستثمارات تتدفق والتكلفة المتنافسة تلفت الأنظار

تستقبل مصر موجة استثمارية صناعية قوية، خاصة من الصين وتركيا، خلال العام المالي 2024/2025. جاء ذلك على لسان وزير الصناعة والنقل المصري كامل الوزير، الذي كشف أن الشركات الصينية تصدرت قائمة المستثمرين بـ 532 شركة، تليها الشركات التركية بـ 439 شركة. وتستفيد هذه الشركات من الميزة التنافسية الأبرز لمصر: تكلفة العمالة المنخفضة التي لا تتجاوز 150 دولاراً شهرياً للعامل، مقارنة بمتوسط 900 دولار في تركيا وحد أدنى 630 دولاراً، بينما يبدأ الحد الأدنى في الدول الأوروبية من 1000 إلى 1500 دولار.

هذه الأرقام تمنح مصر ميزة تنافسية ضخمة، تضاف إلى موقعها الجغرافي القريب من أسواق أفريقية ضخمة، وتجعلها وجهة مثالية لإعادة توطين سلاسل التوريد العالمية. وقد تدفقت هذه الاستثمارات بالفعل إلى المناطق الحرة، حيث استقبلت المنطقة الحرة بمحافظة الإسماعيلية استثمارات جديدة من 9 شركات صينية وتركية بقيمة 41.6 مليون دولار توفر 16 ألف فرصة عمل، وفقاً لبيانات هيئة الاستثمار المصرية.

الأزمة المفاجئة: "مش لاقيين العدد الكافي"

لكن المفارقة تكمن في أن هذه المكاسب الاقتصادية تواجه تهديداً داخلياً مفاجئاً. فقد أعلن الوزير كامل الوزير صراحة أن المصانع الجديدة تواجه نقصاً واضحاً في العمالة الفنية المدربة المؤهلة لتشغيل المصانع والمشروعات الجديدة. وفي تصريحات متفرقة، أوضح الوزير أن المجالات التي تعاني النقص تشمل الصيانة والتركيب وتصنيع الوحدات المتحركة.

ويلخص الوزير المشكلة بعبارة صريحة: "مش لاقيين العدد الكافي من العمال المؤهلين". فرغم توافر فرص العمل، لا تجد المصانع الكفاءات الفنية اللازمة، مما يهدد بإبطاء وتيرة الإنتاج والتأثير على جاذبية مصر الاستثمارية.

البطالة ترتفع.. لكن ليس لقلة الوظائف

في تناقض آخر، أظهرت بيانات الجهاز المركزي للتعبئة العامة والإحصاء ارتفاع معدل البطالة في الربع الثالث من 2025 إلى 6.4%، لكن السبب لم يكن نقص فرص العمل. بل على العكس، جاءت الزيادة نتيجة توسع قوة العمل بنسبة 3.3% لتصل إلى 34.7 مليون فرد، مع دخول 939 ألف شخص إضافي إلى سوق العمل.

الأمر الأكثر إثارة للدهشة يتجلى في التركيبة التعليمية للمتعطلين. فقد شكل حملة المؤهلات المتوسطة والجامعية وما فوق الجامعية 83% من إجمالي المتعطلين، بزيادة عن 78% في الربع السابق. وهذا يعكس خللاً واضحاً بين مخرجات التعليم واحتياجات سوق العمل الفعلية، خاصة مع توجه الدولة نحو التوسع في القطاعين الصناعي والزراعي اللذين يحتاجان أساساً إلى عمالة فنية مدربة وليس شهادات أكاديمية نظرية.

المشكلة الجذرية: ثقافة "الشهادة الجامعية أولاً"

تكمن أزمة مصر الحقيقية في ثقافة مجتمعية راسخة ترى في الشهادة الجامعية الهدف الأسمى، بينما يتجه سوق العمل نحو التخصصات الفنية والتقنية. وقد أشار مركز معلومات مجلس الوزراء إلى أن النظرة المجتمعية للتعليم الفني لا تزال بحاجة إلى تغيير جذري.

ويؤكد الخبراء أن التركيز على التعليم الأكاديمي النظري على حساب التدريب المهني أنتج جيلاً من الشباب يحمل شهادات عليا لكنه يفتقر إلى المهارات العملية التي يحتاجها القطاع الصناعي. وفي ظل هذه الفجوة، تفتح المصانع أبوابها ولكن لا تجد من يشغلها.

الحلول المقترحة: نحو نموذج تعليمي جديد

في إطار سعي الدولة لمواجهة هذه الأزمة، جاءت توصيات مركز معلومات مجلس الوزراء التي تتضمن:

  • تعزيز التعليم الفني وتقديم حوافز للطلاب للالتحاق به
  • زيادة أعداد خريجي المدارس التقنية
  • توفير تمويل مستدام لهذا النوع من التعليم
  • إجراء تعديلات جوهرية في نظام القبول الجامعي لضبط أعداد الطلاب وفق احتياجات السوق

ويبدو أن الحكومة بدأت بالفعل في تنفيذ بعض هذه التوصيات. فقد أعلن الوزير كامل الوزير عن العمل على إعداد مناهج لتطوير التعليم الفني وإقامة مدارس متخصصة، مثل المدرسة المتخصصة لصناعة السيراميك التي طالب بها القطاع الصناعي.

السؤال الحاسم

تقف مصر اليوم على مفترق طرق تاريخي. فإما أن تنجح في تجاوز ثقافة "الشهادة الجامعية أولاً" والانتقال إلى نموذج يعتمد على التعليم الفني كرافعة أساسية لاقتصاد تنافسي، أو تخسر فرصة استثمارية قد لا تتكرر. ويبقى السؤال الأهم: هل ستتمكن مصر من إعادة صياغة علاقة مجتمعها بالعمل الفني قبل أن تفلت الفرصة من بين يديها؟

المصادر:

الوسوم

الاستثمار الصناعي في مصر | نقص العمالة الفنية المدربة | معدل البطالة في مصر 2025 | التعليم الفني والمهني | الفجوة بين التعليم وسوق العمل

النشرة البريدية

تعليقات

الموضوعات الأكثر قراءة في" علىّْ الدين الإخباري"

مقتل ياسر أبو شباب.. زعيم المليشيات المتعاونة مع إسرائيل في غزة

"ضربة العقرب" وتغيير المعادلة.. واشنطن تنشر أول سرب مسيرات "انتحارية" في الشرق الأوسط

الذهب يتألق مدعوماً بتراجع الدولار وترقب بيانات التضخم الأمريكية